خاص| «باسوس» ترفع شعار «لا للبطالة .. نعم لضرب الصناعة الوطنية»
قرية أسفل الطريق الدائرى، لا يعرف أهلها التحدى، ولا يخشون القانون، رفعوا شعار "إحنا الحكومة"، وتصارعوا فيما بينهم لمخالفة القانون وتكوين الثروات الفاحشة، فاتفقوا على ألا يختلفوا فى تكوين لوبى صناعى يحاربون به الدولة، ويوردون من خلاله الأزمات للاقتصاد القومى، فضلا عن تصدير الأمراض المزمنة والأوبئة للمصريين، الغريب فى الأمر أن كل هذا حدث دون أى تدخل من الأجهزة المعنية بالرقابة على الأسواق، وكذا أجهزة المحليات المسئولة عن استخراج التراخيص والتى غضت بصرها عن تلك القلاع الصناعية التى تضرب الصناعة المصرية فى مقتل .. بوابة «حوادث اليوم»، تعرض القضية للوقوف على حلول لها خلال الفترة المقبلة بدلا من أن تزداد وتيرة الأزمات التى تصدرها مصانع "بير السلم" المنتشرة بالمنطقة.
القرية تسمى باسوس، وتبتعد عن القاهرة بنحو 20 كيلو مترا، ويبلغ عدد سكانها 200 ألف نسمة، وعلى الرغم من أنها كانت تشتهر بالزراعة وبين عشية وضحاها حولها بعض أبناؤها إلى قلعة أو مافيا لتصنيع جميع المنتجات من "الإبرة إلى الصاروخ"، بطرق غير شرعية بعيدا عن أعين الأجهزة الرقابية، بواقع 20 ألف ورشة ومصنع، كما أن القرية التى كانت تخضع لوزارة الزراعة واستصلاح الأراضى، إلى مدينة صناعية خارج "دائرة القانون"، لا تخضع لأى نوع من الرقابة، فبعض أهالى القرية يقلدون جميع المنتجات لأكبر الشركات الكبرى منها "زينة للورقيات، وفاين للورقيات، وبامبرز، وفاين فودز، والسويدى للكابلات، بالإضافة إلى المنتجات الغذائية التى يتم تصنيعها هى الأخرى فى غفلة من الأجهزة الرقابية، كما أنه يتم إعادة تصنيع "البامبرز" بعد استخدامه، وهو ما يؤدي إلى الكوارث الصحية والبيئية، فضلا عن تصنيع «البويات».
بدأت رحلتنا عبر الطريق الدائرى عند نزلة باسوس، حيث تنتشر معارض الورقيات والأدوات الكهربائية، التى تعتبر دليلا للأجهزة الرقابية للوصول إلى المصانع العشوائية، المنتشرة فى القرية، لكن –يبدو أن هذه الأجهزة بداية من الوحدة المحلية بالقرية وحتى الرقابة التموينية والصناعية، وقد لا تستطيع عزيزى القارئ التجول داخل الشارع الرئيسى للقرية، بسبب حالة الازدحام الشديد التى تتميز بها القرية حيث يتدافع التجار والبائعين المتجولين على معارض الورقيات والأدوات الكهربائية، لاقتناء المنتجات المضروبة.
بلا معالم
وكشفت جولتنا داخل المنطقة الصناعية العشوائية فى باسوس، وبالتحديد بشارع معهد البيومى الابتدائى الأزهرى، أن مصانع بير السلم، تعمل بلا معالم، حيث تنتشر داخل شوارع القرية كاملة أسفل العقارات وبالتحديد فى الطابق الأرضى، فلا تدرى أن هذا مصنعا إلا بالتزامك بالوقوف بجواره لتستمع إلى أصوات الماكينات التى لا تتوقف وتصدر أصوات الضوضاء التى تشعر بها أن هناك زلازل تحرك الأرض من تحت قدميك، وليس هذا فقط، كما تشاهد سيارات تتوقف أمام المنازل ويتم تحميل وتنزيل البضائع التى لا يراها المتابعون، فى الخفاء، ولا ترى سوى فتيات يدخلن العقارات فى السابعة صباحا، ويغادرن العقار فى الثامنة مساء بعد انتهاء عملهن فى تصنيع الممنوع، والغريب هنا وما يثير الدهشة كيف سمحت المحليات والأجهزة الرقابية لهذه المنشآت العشوائية أن تقتحم الاقتصاد المصرى وتؤثر فيه بصورة سيئة فى غفلة من الرقابة.
كشفت جولتنا داخل القرية، عدة أمور منها إذا كنت تبحث عن الثراء الفاحش فالأمر ليس عصيبا عليك، بل يتوقف على أمور بسيطة منها أن تمتلك مخزنا أو عقارا داخل القرية وتكون لديك بعض الأموال البسيطة التى تسعدك على شراء بعض ماكينات التقطيع والتغليف، لاستخدامها فى تقطيع «رول» الورق وتغليف الأكياس بعد عملية تعبئة المنتجات الورقية، وعليك الاستعانة بعدد من الفتيات والشباب بشرط أن تكون محال إقامتهم خارج نطاق القرية والمدينة، حتى يمكن السيطرة عليهم، فضلا عن أنه يتم إخضاع العاملين بهذه المصانع لعدة اختبارات، للتأكد من أن الأجهزة الرقابية لا ترصد أعمالهم وأنهم لا يخضعون تهديدات الأمن، كما أن أصحاب المصانع عليهم فقط توفير المواد الخام وفرص البيع وتصدير المنتجات، ويلعب الناضورجية، دورا هاما فى حياة المنطقة العشوائية حيث ينتشرون فى الشوارع، لتأمين صناعات "بير السلم"، من شرور الجهات الرقابية مقابل حصولهم على مكافآت شهرية ثابتة، حيث يجوبون شوارع وزقاق القرية لمتابعة الحالة الأمنية، ورصد تحركات الغرباء ورجال الشرطة لحظة وصولهم للقرية وإبلاغ أصحاب الأنشطة غير المشروعة، ليأخذوا الحذر، ويسارعوا بإخفاء أنشطتهم غير المشروعة.
صناعة السلاح
يؤكد البعض أن القرية التى تعمل فى تصنيع كل ما هو مضروب من منتجات غذائية وكهربائية وصحية مضروبة، فى العلن بعيدا عن أعين الأجهزة الرقابية، لا تغفل تصنيع السلاح فى الخفاء لتمد بها العناصر الإجرامية، كما يؤكد بعض الأهالى أنه على الرغم من أن أصحاب المصانع يعملون بعشوائية كاملة فهم أيضا يسرقون الكهرباء التى تعمل بها منشآتهم غير الشرعية.
وكشفت رحلتنا أيضا أن هناك تجار كبار يقصدون " قرية باسوس "، لاقتناء البضائع "المضروبة"، لدسها فى الأسواق وبيعها للمستهلك البسيط والاستفادة من فارق الأسعار بطريقة الغش والتدليس.
السوق
إذا دفعتك الأقدار لزيارة القرية فستجد تزاحما ما بعده تزاحم داخل شوارع القرية، بأكياس حفاضات الأطفال والمناديل الورقية رديئة الصنع، والتى يفترش بها مجموعة من النساء ويتم جمعها داخل الأكياس المختلفة، والكراتين التى تحمل علامات تجارية عالمية، وعرضها على التجار والموردين بأسعار زهيدة تمهيدا لترويجها بالأسواق.
الغريب فى الأمر أن أصحاب المصانع لا ينكرون عملهم دون تراخيص، لافتين إلى أن ذلك يأتى نتيجة الاشتراطات التعجيزية التى تكبل بها الدولة جميع الباحثين عن الاستقرار بالإضافة إلى الضرائب والتأمينات الاجتماعية التى لا يفى بها أصحاب الأعمال، كاشفين عن أن الحكومة تتعامل مع مشروعاتهم على أنها استثمارية فى الوقت الذى لا تتخطى مشروعاتهم وصفها بالورش الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر.
الرقابة غائبة
من جانبه أكد محمد المهندس، رئيس غرفة الصناعات الهندسية باتحاد الصناعات المصرية، أن انتشار مصنع بير السلم، يكشف عن غياب الدور الرقابى للدولة، حيث إن الاقتصاد الموازى أو غير الشرعى يمثل صداعا فى رأس الاقتصاد القومى، فضلا عن أنه يؤثر بصورة سلبية على الصانع المصرى والمصانع الشرعية التى تجمعها علاقة طيبة بأجهزة الدولة وتلتزم بسداد حق الدولة من ضرائب وتأمينات وغيرها من الالتزامات التى يفرضه القانون على المصانع، لافتا إلى أن هذه المنتجات –المصنعة بمصانع بير السلم، ولا تخضع للرقابة-، قد يضطر المستهلك المصرى لاقتنائها بسبب انخفاض أسعارها، خاصة وأنه قد لا يتطرق فى بحثه عن جودة المنتج.
وشدد المهندس، على أن إغلاق مصانع ومنشآت "بير السلم"، ليس حلا جذريا للأزمة، لكنه يجب بحث إمكانية احتواء المصانع العشوائية، وضمها إلى الاقتصاد الرسمى، حيث إن المصلحة العامة تقتضى تقويم أصحاب هذه المنشآت، وليس حبسهم وتشريدهم، على أن نلتزم كدولة بتذليل العقبات التى تعرقل استخراجه للتراخيص اللازمة، فضلا عن توفير فرص حصوله على الخامات الأولية المستخدمة فى التصنيع، وفى حالة إصراره تبدأ الأجهزة فى اتخاذ الإجراءات القانونية ضده، ومنعه من ترويج منتجاته التى تخالف المواصفات القياسية والجودة المعمول بها.
قنبلة موقوتة
وصف رئيس غرفة الصناعات الهندسية، الاقتصاد العشوائى، بـ"القنبلة الموقوتة"، فعلى الرغم من أن حجم هذا الاقتصاد يتجاوز 65% من قيمة الاقتصاد القومى، فيما يصل حجم مستحقات الدولة التى يتم تحصيلها من هذا الاقتصاد "زيرو".
وأشار المهندس، إلى أن مصر كانت تمتلك الكثير من الحضانات الخاصة بالصناعة الوطنية، والتى كانت تفتح ذراعيها للصانع الصغير، حيث يتم توفير الماكينات والمعدات اللازمة له، لتمكينه من الالتحاق بالمنظومة الصناعية بشكل مناسب لإمكانياته المادية والفنية، وتتم العناية به لفترة زمنية، وبعد استجابته يخرج من هذه الحضانة وهو فى أفضل صوره.
وعاب رئيس غرفة الصناعات الهندسية، غياب دور بعض أجهزة الدولة التى تمارس دور الحضانات ومنها الصندوق الاجتماعى، وجهاز الحرفيين، وغيرها من الأجهزة التى أنشئت لتقديم المساندات اللازمة للصانع الصغير، وتأهيله ليصبح صانعا كبيرا يتمكن من اقتحام السوق الأجنبية، مشددا على أن ما يفعله الصندوق الاجتماعى يخالف قانون إنشاءه حيث يختص بتقديم المساندة اللازمة ماديا من خلال توفير القروض الكافية لشراء المعدات وماكينات التشغيل، دون تحميل الصانع الصغير الأعباء المالية التى تمثل عائقا على كاهله.
تشريعات جديدة
الخبير الاقتصادى الدكتور أحمد عامر الخولى، يرى أن قطاع التجارة يمثل نحو 20% من قيمة الاقتصاد الأسود، بما يعادل 12.5% من قيمة الدخل القومى، كاشفا عن خطورة مصانع «بير السلم» فيما يتعلق بتقليد العلامات التجارية الكبرى، لافتا إلى أنه يجب مواجهة أزمات الاقتصاد السرى بالإسراع فى سن تشريعات واضحة تمكن المصانع والمتاجر العاملة بعيدا عن الشرعية، لتقديم الحوافز اللازمة لضمها للاقتصاد الرسمى.
وطالب الخولى، بضرورة التوسع الأفقى فى جمع الضرائب بدلا من تحميل رجال الأعمال الحاليين فوق طاقتهم، والعمل على تخفيض حالات التهرب الضريبى، وهو ما سيعمل على زيادة الحصيلة الضريبية بسبب إقبال الصناع على الوفاء بالتزاماتهم الضريبية وزيادة القاعدة الضريبية.
بعيدا عن المسكنات
المستشار القانونى محمد داود، المستشار القانونى لجمعية الإعلاميين العرب، يقول : نحتاج قرار جرىء للعمل على سرعة دمج الورش والمصانع الصغيرة بالاقتصاد الرسمى، وإعادة إعمار المصانع المتعثرة، وتحويل مدارس التعليم الفنى إلى مدارس إنتاجية.
وأوضح داود، أن مصر بها حوالى 116 منطقة صناعية غير مرخصة، تضم نحو 850 ألف عامل، وتبدأ استثمارات المصانع فيها بمبلغ 5 آلاف جنيه ولا تزيد على 15 مليون جنيه، وفى حالة ضمها للاقتصاد الرسمى سيتم ضخ ما يتراوح بين 300 و400 مليار جنيه، فى خزينة الضرائب، متوقعا أن يتضاعف المبلغ خلال 4 سنوات.
وطالب داود، الأجهزة الرقابية بتكثيف حملاتها على المناطق الصناعية العشوائية التى تنتشر فى عدد كبير من المناطق، ومعظمها مناطق عشوائية نائية وبعيدة عن جهاز الشرطة والأجهزة الرقابية المنوط بها التفتيش والضبط لهذه المصانع، ولابد من التنسيق الكامل بين الجهات الرقابية حتى نتمكن من التعامل الحازم مع مثل تلك المصانع.
وشدد داود، على أن جودة منتجات "بير السلم"، تقل كثيرا عن منتجات المصانع الكبرى، كاشفين عن أن هناك العديد من المصانع التى تقوم بتصنيع المواسير من المخلفات الصناعية والخردة والقمامة، ويتم طحنها فى درجة حرارة مرتفعة وبيعها للمستهلك كمواسير للشرب، ولا يمكن التأكد من ذلك إلا من خلال التحليلات الكيميائية.
أمراض وبائية
مسئول بوزارة الصحة، يؤكد أن معظم منتجات المناطق العشوائية غير الخاضعة للرقابة الصحية، تصيب بالأخطار والأمراض، حيث يتم إنتاجها دون اتباع المواصفات القياسية المتعلقة بالمنتج، مشيرا إلى أنه تم ضبط كميات كبيرة من المنتجات الورقية التى تصيب الجهاز التنفسى والرئتين بعدد من الأمراض على رأسها الالتهابات الرئوية، والحساسية المزمنة، وغيرها من الأمراض التى قد تدمر حياة المواطنين، لاعتمادها على الألوان الصناعية بنسب كبيرة.