الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر يكتب :لحظة صمت دولية وتاريخية.. فأما آن الأوان أن يخجل بعض القادة الفلسطينيين
في واحدة من مئات الغارات الإسرائيلية المجرمة على غزة، قتل، الاثنين الماضي، 3 بريطانيين، وفلسطيني، ومواطن أمريكي كندي، وبولندي، وأسترالية ينتمون جميعاً لمؤسسة غير ربحية تسمى المطبخ المركزي العالمي World Central Kitchen WCK، والحصيلة 7 قتلى من مواطني الدول الغربية.
قالت المنظمة في بيان رسمي لها إنها نسّقت كل تحركاتها مع الجيش الإسرائيلي، إلا أن قافلتها على الرغم من ذلك تعرضت للقصف أثناء مغادرتها أحد مستودعات دير البلح بعد تفريغ أكثر من 100 طن من المساعدات الإنسانية، التي تم جلبها إلى شمال غزة، عند رصيف المساعدات الذي تم بناؤه حديثا.
يعني ذلك أن علامات وضعت على الحافلات كي يتمكن الجيش الإسرائيلي من تمييزها، ويعني ذلك أيضاً أن المنظمة أبلغت الجيش الإسرائيلي بخط سيرها بالتفصيل، ومواعيد حركتها، ويعني ذلك أيضاً أن ما حدث جريمة مكتملة الأركان مع سبق الإصرار والترصد، وفقاً لخبراء عسكريين.
يقول الجيش الإسرائيلي إنه يجري التحقيق في الحادث، وان الغارة كانت "خطأ فادحا"، وأنها لم تكن تستهدف إيذاء عمال الإغاثة.
قال الطاهي الشهير ومؤسس المطبخ المركزي العالمي خوسيه أندرياس في فيديو انتشر على نطاق واسع على شبكة الإنترنت، إن الهجوم الإسرائيلي استهدف السيارات "على نحو منهجي، سيارة بعد سيارة"، وتابع أن ذلك لم يكن مجرد "حظ سيء، حيث أسقطت قنبلة بالخطأ، وإنما كان القصف على مسافة تتراوح ما بين 1.5-1.8 كيلومتر، وكانت هناك قافلة إنسانية محددة للغاية، وكانت عليها لافتات على أسقف السيارات، وشعار ملون واضح للعيان، وكان جليا من نحن وماذا نفعل".
وشدد أندرياس على أن الجيش الإسرائيلي كان على علم بمكان وجود القافلة، وقال: "كانوا يستهدفوننا في منطقة منزوعة السلاح، تقع تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، وكانوا يعلمون أن فرقتنا تتحرك على هذا الطريق بثلاث سيارات"، ورفض التصريحات الإسرائيلية والأمريكية بأن الضربة لم تكن متعمدة بشكل قاطع.
وأضاف أندرياس: "حتى لو تحركنا دون التنسيق مع الجيش الإسرائيلي، فلا يمكن لأي دولة ديمقراطية أو جيش أن يستهدف المدنيين والعاملين في المجال الإنساني".
ووصف أندرياس الحادث بأنه "حرب ضد الإنسانية نفسها".
وقد أنشأ أندرياس المطبخ المركزي العالمي بعد سفره إلى هاييتي لطهي الطعام للمدنيين في أعقاب الزلزال المدمر، الذي تشير التقديرات إلى أنه خلّف ما يصل إلى 300 ألف قتيل. ومنذ ذلك الحين سرعان ما أصبح المطبخ المركزي العالمي واحدا من أبرز مقدمي المساعدات الغذائية في العالم.
ويستند عمل المطبخ المركزي العالمي إلى مبدأ بسيط هو عدم الانحياز لأي من أطراف النزاعات، وإلى أن الطعام هو أحد حقوق الإنسان الأساسية، وتؤمن المؤسسة بحق البشر في الطعام سواء كانوا طيبين أم أشرار، أغنياء أم فقراء، يساراً كانوا أم يميناً. وهم لا يسألون الذين يساعدونهم عن ديانتهم، وإنما يسألونهم "كم عدد الوجبات التي تلزمكم؟". وقد قدم المطبخ، خلال الأزمة الأخيرة في قطاع غزة، 1.75 مليون وجبة ساخنة عبر إسرائيل، و43 مليون وجبة في غزة.
البريطانيون الثلاثة الذين قتلوا هم جون تشابمان، 57 عاما، وجيمس هندرسون، 33 عاما، وجيمس كيربي، 47 عاما وكانوا يعملون في مجال الأمن التابع للمطبخ المركزي العالمي.
الفلسطيني هو سيف الدين عصام عياد أبو طه، 25 عاما، وكان أصغر الضحايا، وهو متطوع كسائق مع المطبخ المركزي العالمي.
الكندي الأمريكي جاكوب فليكنغر، 33 عاما.
البولندي داميان سوبول.
الأسترالية لالزاومي فرانكوم.
بالقطع، وكما هو متوقع فإن العالم "الحر والديمقراطي"، ونعني هنا كل من أستراليا وكندا والولايات المتحدة وبولندا والمملكة المتحدة، تقدمت بالفعل بمطالبات لإجراء تحقيق مستقل من طرف ثالث في الضربات المتعددة التي أدت إلى مقتل عمال الإغاثة لديها.
لكن ما يثير حفيظة المرء حقاً، وبعد كل ما سبق، ألا ينتفض العالم، ومعه وسائل الإعلام الغربية، وعلى نحو ملفت وواسع وهائل، بنفس القدر لمقتل 33 ألف من شعبنا الفلسطيني الأعزل. ونحن مع إجراء التحقيق بالقطع، وننتفض لمقتل الأبرياء السبعة من المطبخ المركزي العالمي بكل تأكيد، إلا أننا ننتفض بقدر مضاعف لمقتل 33 ألف من مواطنينا، لكل منهم حكايته، وروايته، وعائلته، وماضيه وحاضره، قبل أن يقصف الاحتلال الإسرائيلي وينسف مستقبله.
أعتقد أن على العالم بأجمعه أن يقف أمام هذا الحدث الجلل ليفكر في الـ 33 ألف مواطن فلسطيني ومعهم السبعة "البيض"، ولنقل الستة لأن من بينهم ابننا الفلسطيني، ويعيد النظر بشكل فوري بما وصلت إليه درجة الاستهانة بروح الإنسان العربي، وكأنه من درجة أدنى حاشا لله.
تقتل إسرائيل يومياً عشرات ومئات الفلسطينيين بدم بارد، أطفالاً ونساءً وشيوخاً أمام أعين العالم أجمع، دون أن يطالب أحد بالتحقيق مع إسرائيل، ولا بمحاسبتها على ما ترتكبه من إبادة جماعية واضحة المعالم والأركان.
ثم يخرج علينا منسق مجلس الأمن القومي الأمريكي للاتصالات الاستراتيجية جون كيربي ليصرح أنهم في الولايات المتحدة، ومن خلال مراقبتهم الدائمة للأحداث في غزة، فإن "إسرائيل لم ترتكب أي جريمة حرب في غزة"، حيث لم يجد كيربي في قتل الموظفين السبعة من مؤسسة المطبخ المركزي العالمي بقصف إسرائيلي ما يجعل الأمر "يرقى لمستوى جريمة حرب". ولهذا أقول إننا، وبصراحة، تعودنا على ازدواجية المعايير والمفاهيم المغلوطة للقيم الإنسانية من الولايات المتحدة الأمريكية، بعد قتلها الملايين من البشر في فيتنام واليابان وأفغانستان والعراق واليمن ويوغوسلافيا وليبيا، وأخيرا في فلسطين بأيدي أداتها الإسرائيلية. لهذا فتقديرا معيباً ومشؤوماً كهذا من كيربي لا يثير الدهشة بقدر ما تثيره بعض الشخصيات الفلسطينية التي تستمر في التصريحات والاتهامات التي تعمّق الانشقاق الفلسطيني، وتحيل دون استعادة الوحدة الفلسطينية. وطالما نحن الفلسطينيون نتهم بعضنا بعضاً بالعمالة وتبادل إلقاء المسؤولية بخصوص مأساة غزة، أو ما يمكن أن يحدث في الضفة الغربية، فلا غرابة أن يتفوه كيربي بما يقوله من كلام فارغ.
إننا بصدد لحظة صمت تاريخية ودولية.. بينما يصمت العالم الغربي على ما يرتكبه نظام كييف النازي الإجرامي، وما ترتكبه إسرائيل، وما تريده فرنسا وبريطانيا بالزج بقوات إلى أوكرانيا ليصبح "الناتو" وجهاً لوجه أمام روسيا، ما يهدد العالم بكارثة لا قبل له بها، لكنه ينتفض لمقتل السبعة، وله الحق في ذلك تماماً، ونحن نقف إلى جانبه، لكن قليلاً من الإنصاف قد يخفف وطأة ازدواجية المعايير المفضوحة من قبل الغرب.
أرى القصف الوحشي والإجرامي المتعمّد يستهدف أي جهود دولية إنسانية تبذل لمساعدة أهل غزة على الصمود والتمسك بأرضهم. ويجب أن تخلّد أسماء الضحايا السبع الذين سقطوا من المطبخ المركزي الدولي، وتضاف إلى قائمة الشهداء التي تجاوزت 33 ألف من سكان القطاع.
ولا شك أن هذه النتيجة المأساوية للإجرام الإسرائيلي العربيد تحتم استيقاظ المجتمع الدولي، وتطرح على المشهد الدولي ضرورة الوقف الفوري للقتال في غزة، وهي مطالبات يجب أن يتم تعزيزها بشكل واضح بالاستناد إلى مفتاح الحل لجوهر القضية بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.