استسلم للشك فذبح ابنتيه فجرًا.. قصة أبٍ أنهى فعل الخير بجريمة بشعة
على مدار عقد ونصف من الزمن، اعتاد "نصر" التوجه إلى بنك الدم كمتبرع دائم حتى إن ابنتيه "إسراء" و"أسماء" سارتا على درب أبيهما بعدما تجرعوا جميعا معاناة البحث عن أكياس فصيلة "o".
الزيارة الشهرية لن ترى النور مطلع سبتمبر المقبل، الأب خلف القضبان، والفتاتان وارى جسديهما الثرى، بعد أن ذبحهما أقرب الناس، في جريمة قتل أثارت الرأي العام.
استسلم للشك فذبح ابنتيه فجرًا.. قصة أبٍ أنهى فعل الخير بجريمة بشعة
منذ 16 سنة وصل قطار الموظف بمصنع السكر وزوجته محطته الأخيرة، تقطعت السبل للحفاظ على حبات العقد ألا تنفرط لكن رياح المشكلات عصفت بالأسرة، تزوجت "أم البنات" من آخر، وأنجبت منه أطفالًا، ليقرر الأب الزواج من أخرى تتولى مسؤولية تربية ابنتيه داخل منزله المكون من طابقين بشارع حامد ندا، المتفرع من شارع سعد زغلول.
عاش "نصر" وزوجته الثانية في هدوء وسعادة لكن المرض اللعين كان له رأي آخر، اكتشفت الزوجة إصابتها بالسرطان ليتشتت تركيز رب الأسرة ما بين رعاية رفيقته ومتابعة تدرج الفتاتين في مراحل التعليم حتى توقف بندول الساعة معلنًا رحيلها بعد 4 سنوات واجهت فيها المرض بشجاعة، وتشبثت خلالها ببصيص من أمل.
داخل أحد أركان منزله البسيط بمركز الحوامدية جنوب محافظة الجيزة، جلس "نصر" لاتخاذ قرار مصيري، تقدم باستقالته من وظيفته مكتفيًا بالحصول على مكافأة نهاية الخدمة تعينه على شراء جهاز ابنتيه "إسراء" 23 سنة، طالبة بكلية الآداب جامعة عين شمس، و"أسماء" 21 سنة، طالبة بكلية دار علوم جامعة القاهرة، دون أن يدري بخلده ما يخبئ له القدر.
المصائب لا تأتي فرادى، منذ أسبوعين، كانت مؤشرات ضبط الوقت تشير إلى السادسة صباحًا، صراخ وعويل قطع حالة الهدوء في الشارع الضيق، رائحة الأدخنة الكثيفة جذبت انتباه قاطني المنطقة، أسرع الجميع لاكتشاف مصدر، فكانت الفاجعة حاضرة بكل أشكالها، اندلع حريق هائل في منزل "عم نصر" التهم الأخضر واليابس حتى تحول إلى قطعة فحم بينما نجا الأب وابنتاه من الموت المحقق، وفروا بملابسهم فقط.
واجمة هي وجوه الثلاثة- الأب وابنتاه- ثمة حرقة وألم يعتصران القلوب، فقد الموظف بالمعاش "تحويشة العمر" ممثلة في أجهزة كهربائية ابتاعها لفلذتي كبده حالمًا بيوم زفافيهما، نيران الحريق الناتج عن ماس كهربائي حولته سرابًا في الوقت الذي تجمع فيه الأهالي لتخفيف وطأة الصدمة التي يشيب لها الولدان: "إحنا أهل وكل حاجة هترجع زي الأول يا عم نصر".
انتقلت الأسرة للعيش في شقة ملك أحد أقاربه بشارع المستشار المتفرع من طريق (11)، حاول الرجل الخمسيني لملمة جراحه وجمع ما تبقى من قواه التي خارت، الحدث جلل، إلا أنه بحث عن مسح آثار الصدمة من مخيلة ابنتيه.
الخميس الماضي، كانت جدران المنزل المؤقت شاهدة على جلسة عتاب استمرت 30 دقيقة، أبدى "نصر" فيها رفضه علاقة عاطفية زعم أنها تجمع ابنته الصغرى "أسماء" مع شاب، محذرًا إياها من استمرارها، موجهًا اللوم لشقيقتها بدعوى أنها على علم بما يدور خلف الكالوس دون إخباره قبل أن ينتهي الحديث بحضور نجل شقيقه للاطمئنان عليه ومكث حتى أذان الفجر غادر بعدها قاصدًا المسجد القريب.
وصل ابن العم منزله لأخذ قسط من راحة استمرت ساعة واحدة، أيقظه والده في تمام السادسة صباح الجمعة: "قوم عمك قتل بناته الاتنين".
لم يكن الرائد عبدالعزيز فرحات غادر مكتبه، ساعات قلائل تفصله عن انتهاء نوبتجيته يتلقى إشارة من شرطة النجدة بإبلاغ أحد الأشخاص عن قتله ابنتيه في الجهة المقابلة لديوان القسم.
ظن الضابط الشاب للوهلة الأولى أن الأمر محض مُزحة، إلا أن شعورا داخليا دفعه لاستقلال سيارة البوكس قاصدًا الجهة الأخرى لترعة الجيزاوية، حيث مجموعة مشاتل وكافيهات. "أنا هنا مستنيكم.. لفوا براحتكم" لاحظ "نصر" تجاوز سيارة الشرطة المكان الذي يقف فيه فنادى عليهم، بينما يجلس بجوار جثتي ابنتيه.
دقائق معدودة، اكتظت معها المنطقة بالعشرات من الأهالي ورجال المباحث، كشفت المعاينة الأولية عن أن "نصر. إ" موظف بالمعاش، ذبح ابنتيه "إسراء" و"أسماء" وأبلغ الشرطة، فاقتادته قوة إلى ديوان القسم، ونقلت سيارتا إسعاف الجثتين إلى مصلحة الطب الشرعي تحت تصرف النيابة العامة.
داخل مكتبه في الطابق العلوي لوحدة مباحث مركز الحوامدية، عمد العقيد أحمد نجم، مفتش مباحث جنوب الجيزة، إلى استجواب المتهم بقتل ابنتيه للإجابة عن كل التساؤلات، ولعل أهمها "سبب ارتكاب الجريمة".
حالة من الصمت انتابت الأب، وكأنه سافر في رحلة عبر آلة الزمن متخطيًا كل الحواجز، ليتنقل بين المحطات الأصعب التي مر بها طيلة حياته بدأ بانفصاله عن زوجته الأولى ثم رحيل الثانية وانتهاء بالحريق المشئوم الذي انحلت معه عقدة لسانه: "بنتي الصغيرة بتكلم واحد، وتخرج معاه، والتانية عارفة وبتداري عليها"، حسب قوله.
وقال المتهم إنه اصطحب ابنتيه فجرًا: "قولت لهم تعالوا ننهي خلافاتنا بعيد عن البيت" وارتقى سلم الكوبري المطل على طريق (11) نزولًا من سلم آخر مُطل على منطقة المجلس، والسير لمسافة قصيرة وصولًا إلى مسرح الجريمة، حيث كان يخفي السلاح الأبيض "خنجر" داخل كيس تحمله إحدى الضحيتين، وهو ما رصدته كاميرا مراقبة مثبتة بعمود كافتيريا قريبة من مسرح الجريمة.
يتذكر الأب تلك اللحظة التي ذبح فيها ابنته الصغرى: "لطشتها في رقبتها والتانية في لحظتها.. دروختهم زي الدبيحة" وعاد بعدها مسددًا لكل منهما طعنات بالرقبة، واتصل بعدها بشقيقه: "افتكرني بالخير.. مش عاوز حاجة خلاص.. أنا قتلت عيالي"، ثم أبلغ النجدة.
بالعودة إلى المنطقة محل سكن الأسرة المكلومة، حزن مختلط بحسرة، سيطر على الجميع، رواية الأب كانت محل دهشة وعدم تصديق ليؤكد أحد الجيران "البنتين آخر أدب واحترام" ليشدد ثانٍ على أنهم "6 سنين مشفناش بنته طلعت من الشباك.. أبوهم كان بينشر الغسيل علشان محدش يشوفهم".
على بعد خطوات من منزل المتهم القديم أشار أحد الأهالي إلى أن "الحريقة اللي حصلت جابت له هوسة.. البنتين طلعوا بهدومهم" موضحًا أن: "أهل الخير لموا فلوس علشان نجدد له كل حاجة.. الشقة كانت بتتبيض وقربت تخلص"، يلتقط ثالث طرف الحديث مشيدًا بدماثة خلق الأب: "مكنش بيسيب فرض في الجامع، وجاله عريس لبنته رفضوا علشان مش بيصلي".
أجمع الأهالي على حسن أخلاق الضحيتين وحبهما لفعل الخير من خلال تبرعهم بالدم منذ 3 سنوات دون انقطاع، الأمر الذي بدا جليًا في جنازة الأختين المهيبة التي شُيعت في المساء من مسجد السلام ليختتم أحد الأهالي حديثه: "فيه لغز محدش عارفه، لكن البنتين محترمين نمرة واحدة".